فصل: المسألة الأولى: (في أن هذه الآية ناسخة):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومادة إذن مهموزة وغير مهموزة وواوية ويائية بتقاليبها الأربعة: إذن ذان ذون ذين- ترجع إلى العلم الناشيء عن حاسة السمع المتعلق بجارحة الأذن، وتارة يثمر الإباحة وتارة المنع، فأذن بالشيء- كسمع: علم به {فأذنوا بحرب} أي كونوا على علم من أن حربكم أبيح.
وأذن له بالشيء- كسمع أيضًا: أباحه له، وآذنه الأمر وبه: أعلمه- وزنًا ومعنى، فجعله مباحًا له أو ممنوعًا منه، وأذّن فلانًا تأذينًا: عرك أذنه، وأذّنه: رده عن الشرب فلم يسقه، كأن التفعيل فيه للإزالة، وآذن النعل وغيرها: جعل لها أذنًا، وفعله بإذني: بعلمي وتمكيني، وأذن إليه وله- كفرح: استمع بأذنه، أي أباح ذلك سمعه وقلبه، وأذن لراتحة الطعام: اشتهاه كأنه أباحه لنفسه، وآذنه إيذانًا: أعجبه، مثل ذلك سواء، وآذنه أيضًا: منعه، كأنه الهمزة للإزالة، والأذن: الجارحة المعروفة- بضمة وبضمتين- والمقبض والعروة من كل شيء وجبل، لأن كلًا من ذلك سبب للتمكن من حمل ما هو فيه، والأذن: الرجل المستمع القابل كل ما يقال له كأنه لما قبله أباحه قلبه ومكنه منه، والأذان: النداء إلى الصلاة لأنه إعلام بإباحتها والمكنة منها، وتأذن: أقسم وأعلم، وتارة يتأثر عنه إباحة ومكنة من الشيء وتارة منع وحرمة، فيكون من الإزالة، وآذن العشب: بدأ يجف فبعضه رطب وبعضه يابس كأنه أمكن من جره وجمعه ببدو صلاحه، والآذن: الحاجب، لأنه للتمكين والمنع، والأذنة محركة: صغار الإبل والغنم كأنها تبيح كل أحد ما يريد منها، وطعام لا أذنة له: لا شهوة لريحه، فكأنه ممنوع منه لعدم اشتهائه، وتأذن الأمير في الناس: نادى فيهم بتهدد، فهو يرجع إلى المنع والزجر عن شيء تعزيرًا، والذين- بالكسر والياء: العنب، وكذا الذان- بالألف منقلبة عن واو: العنب، كأنه لسهولة تناوله ولذة مطعمه أمكن من نفسه، والتذوّن- بالواو مشددة: الغنى والنعمة، كأنهما سبب للإمكان مما يشتهي، والذؤنون- مهموزًا كزنبور: نبت من نبات الأرض؛ والمعنى أنه إنما أذن لكم في ذلك إذا فعلتم الشرط المذكور لأنكم فقهتم على الحرب وبنيتم أمركم فيه على دعائمها الخمس التي ملاكها والداخل في كل منها الصبر، فكان الله معكم، وهو مع كل صابر هذا الصبر المثبت في الدعائم الخمس في كل أوان، ومما يسأل عنه في الآية أنه ابتدئ في العشرات بثاني عقودها، وفي المئات والآلاف بأولها.
سألت شيخنا الإمام الراسخ محقق زمانه شمس الدين محمد بن علي القاياتي قاضي الشافعية بالديار المصرية: ما حكمته؟ فقال: الأصل الابتداء بأول العقود، لكن لو قيل: إن يكن منكم عشرة صابرة يغلبوا مائة، لربما توهم انه لا تجب مصابرة الواحد للعشرة إلا عند بلوغ المؤمنين هذا العقد، فعدل إلى الابتداء بثاني عقود هذه المرتبة لينتفي هذا المحذور، فلما انتفى وعلم أنه يجب مصابرة كل واحد لعشرة، ذكر باقي المراتب في الباقي على الأصل المعتاد، وأما تكرير المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين: قبل التخفيف وبعده فللدلالة- كما قال في الكشاف- على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت وإن كان قد يظن تفاوته، وكأنه لم يذك الآحاد بشارة بكثرة هذه الأمة واجتماعها وبدأ بالعشرات وختم بالألوف ليستوفي مراتب الأعداد الأصلية- والله أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

{الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} في الآية مسائل:

.المسألة الأولى: [في أن هذه الآية ناسخة]:

روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث العشرة إلى وجه المائة، بعث حمزة في ثلاثين راكبًا قبل بدر إلى قوم فلقيهم أبو جهل في ثلثمائة راكب وأرادوا قتالهم، فمنعهم حمزة وبعث رسول الله عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان الهذلي وكان في جماعة، فابتدر عبد الله وقال: يا رسول الله صفه لي، فقال: «إنك إذا رأيته ذكرت الشيطان ووجدت لذلك قشعريرة وقد بلغني أنه جمع لي فاخرج إليه واقتله» قال: فخرجت نحوه فلما دنوت منه وجدت القشعريرة فقال لي: من الرجل؟ قلت له من العرب سمعت بك وبجمعك؟ ومشيت معه حتى إذا تمكنت منه قتلته بالسيف وأسرعت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرت أني قتلته.
فأعطاني عصا وقال: «أمسكها فإنها آية بيني وبينك يوم القيامة» ثم إن هذا التكليف شق على المسلمين فأزاله الله عنهم بهذه الآية قال عطاء عن ابن عباس: لما نزل التكليف الأول ضج المهاجرون، وقالوا: يا رب نحن جياع وعدونا شباع، ونحن في غربة وعدونا في أهليهم، ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا وأولادنا وعدونا ليس كذلك، وقال الأنصار: شغلنا بعدونا وواسينا إخواننا، فنزل التخفيف، وقال عكرمة: إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة، والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين، فلما كثروا خفف الله تعالى عنهم، ولهذا قال ابن عباس: أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر، فإن فر من اثنين فقد فر، والحاصل أن الجمهور ادعوا أن قوله: {الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ} ناسخ للآية المتقدمة وأنكر أبو مسلم الأصفهاني هذا النسخ، وتقرير قوله أن يقال: إنه تعالى قال في الآية الأولى: {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} فهب أنا نحمل هذا الخبر على الأمر إلا أن هذا الأمر كان مشروطًا بكون العشرين قادرين على الصبر في مقابلة المائتين، وقوله: {الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} يدل على أن ذلك الشرط غير حاصل في حق هؤلاء، فصار حاصل الكلام أن الآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص، وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ ألبتة.
فإن قالوا: قوله: {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} معناه: ليكن العشرون الصابرون في مقابلة المائتين، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم.
قلنا: لم لا يجوز أن يقال إن المراد من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين، فليشتغلوا بجهادهم؟ والحاصل أن لفظ الآية ورد على صورة الخبر خالفنا هذا الظاهر وحملناه على الأمر، أما في رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره، وتقديره إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين فليشتغلوا بمقاومتهم، وعلى هذا التقدير فلا نسخ.
فإن قالوا: قوله: {الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ} مشعر بأن هذا التكليف كان متوجهًا عليهم قبل هذا التكليف.
قلنا: لا نسلم أن لفظ التخفيف يدل على حصول التثقيل قبله، لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام، كقوله تعالى عند الرخصة للحر في نكاح الأمة: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] وليس هناك نسخ وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر، فكذا ههنا.
وتحقيق القول أن هؤلاء العشرين كانوا في محل أن يقال إن ذلك الشرط حاصل فيهم، فكان ذلك التكليف لازمًا عليهم، فلما بين الله أن ذلك الشرط غير حاصل وأنه تعالى علم أن فيهم ضعفاء لا يقدرون على ذلك فقد تخلصوا عن ذلك الخوف، فصح أن يقال خفف الله عنكم، ومما يدل على عدم النسخ أنه تعالى ذكر هذه الآية مقارنة للآية الأولى، وجعل الناسخ مقارنًا للمنسوخ لا يجوز.
فإن قالوا: العبرة في الناسخ والمنسوخ بالنزول دون التلاوة فإنها قد تتقدم وقد تتأخر، ألا ترى أن في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ.
قلنا: لما كان كون الناسخ مقارنًا للمنسوخ غير جائز في الوجود، وجب أن لا يكون جائزًا في الذكر، اللهم إلا لدليل قاهر وأنتم ما ذكرتم ذلك، وأما قوله في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ فنقول: إن أبا مسلم ينكر كل أنواع النسخ في القرآن فكيف يمكن إلزام هذا الكلام عليه؟ فهذا تقرير قول أبي مسلم.
وأقول: إن ثبت إجماع الأمة على الإطلاق قبل أبي مسلم على حصول هذا النسخ فلا كلام عليه، فإن لم يحصل هذا الإجماع القاطع فنقول: قول أبي مسلم صحيح حسن.

.المسألة الثانية: [في الكلام على علم الله بالجزئيات]:

احتج هشام على قوله إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها بقوله: {الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} قال: فإن معنى الآية: الآن علم الله أن فيكم ضعفًا وهذا يقتضي أن علمه بضعفهم ما حصل إلا في هذا الوقت.
والمتكلمون أجابوا بأن معنى الآية: أنه تعالى قبل حدوث الشيء لا يعلمه حاصلًا واقعًا، بل يعلم منه أنه سيحدث، أما عند حدوثه ووقوعه فإن يعلمه حادثًا واقعًا، فقوله: {الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} معنا: أن الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله، وقبل ذلك فقد كان الحاصل هو العلم بأنه سيقع أو سيحدث.

.المسألة الثالثة: [في قراءة قوله: {ضَعْفًا}]:

قرأ عاصم وحمزة {عِلْمٌ إِنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} بفتح الضاد وفي الروم مثله، والباقون فيهما بالضم، وهما لغتان صحيحتان، الضعف والضعف كالمكث والمكث.
وخالف حفص عاصمًا في هذا الحرف وقرأهما بالضم وقال: ما خالفت عاصمًا في شيء من القرآن إلا في هذا الحرف.

.المسألة الرابعة: [فيمن وقف بإزاء مشركين]:

الذي استقر حكم التكليف عليه بمقتضى هذه الآية أن كل مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء مشركين، عبدًا كان أو حرًا فالهزيمة عليه محرمة ما دام معه سلاح يقاتل به، فإن لم يبق معه سلاح فله أن ينهزم، وإن قاتله ثلاثة حلت له الهزيمة والصبر أحسن.
روى الواحدي في البسيط أنه وقف جيش موتة وهم ثلاثة آلاف وأمراؤهم على التعاقب زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة في مقابلة مائتي ألف من المشركين، مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة وهم لخم وجذام.

.المسألة الخامسة: قوله: {بِإِذُنِ الله}:

فيه بيان أنه لا تقع الغلبة إلا بإذن الله.
والإذن هاهنا هو الإرادة.
وذلك يدل على قولنا في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات.
واعلم أنه تعالى ختم الآية بقوله: {والله مَعَ الصابرين} والمراد ما ذكره في الآية الأولى من قوله: {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} [الأنفال: 65] فبين في آخر هذه الآية أن الله مع الصابرين والمقصود أن العشرين لو صبروا ووقفوا فإن نصرتي معهم وتوفيقي مقارن لهم، وذلك يدل على صحة مذهب أبي مسلم وهو أن ذلك الحكم ما صار منسوخًا بل هو ثابت كما كان، فإن العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين بقي ذلك الحكم، وإن لم يقدروا على مصابرتهم فالحكم المذكور هاهنا زائل. اهـ.

.قال الجصاص:

قوله تعالى: {إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى: {إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّجُلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلَ عَشَرَةً مِنْ الْكُفَّارِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَرَحِمَهُمْ فَقَالَ: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَيُّمَا رِجْلٍ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ وَمَنْ فَرَّ مِنْ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ».
وَإِنَّمَا عَنَى ابْنُ عَبَّاسٍ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ الْفَرْضُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْوَاحِدِ قِتَالُ الْعَشَرَةِ مِنْ الْكُفَّارِ لِصِحَّةِ بَصَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَصِدْقِ يَقِينِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمَ قَوْمٌ آخَرُونَ خَالَطَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَصَائِرُهُمْ وَنِيَّاتُهُمْ خَفَّفَ عَنْ الْجَمِيعِ وَأَجْرَاهُمْ مَجْرًى وَاحِدًا فَفَرَضَ عَلَى الْوَاحِدِ مُقَاوَمَةَ الِاثْنَيْنِ.
قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} لَمْ يُرِدْ بِهِ ضَعْفَ الْقُوَى وَالْأَبْدَانِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ ضَعْفُ النِّيَّةِ لِمُحَارَبَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ فَرْضَ الْجَمِيعِ فَرْضَ ضُعَفَائِهِمْ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: مَا ظَنَنْت أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ بِقِتَالِهِ غَيْرَ اللَّهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} فَكَانَ الْأَوَّلُونَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ النِّيَّاتِ فَلَمَّا خَالَطَهُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا بِقِتَالِهِ سَوَّى بَيْنَ الْجَمِيعِ فِي الْفَرْضِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ مَنْ أَبَى وُجُودَ النَّسْخِ فِي شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِلُهُ مُعْتَدًّا بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ قَالَ تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وَالتَّخْفِيفُ لَا يَكُونُ إلَّا بِزَوَالِ بَعْضِ الْفَرْضِ الْأَوَّلِ أَوْ النَّقْلِ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ نَاسِخَةٌ لِلْفَرْضِ الْأَوَّلِ وَزَعَمَ الْقَائِلُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إنْكَارِ النَّسْخِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَمْرٌ وَإِنَّمَا فِيهِ الْوَعْدُ بِشَرِيطَةٍ فَمَتَى وَفَّى بِالشَّرْطِ أَنْجَزَ الْوَعْدَ وَإِنَّمَا كَلَّفَ كُلَّ قَوْمٍ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِمْ فَكَانَ عَلَى الْأَوَّلِينَ مَا ذَكَرَ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْعِشْرِينَ لِلْمِائَتَيْنِ وَالْآخَرُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ نَفَاذِ الْبَصِيرَةِ مِثْلُ مَا لِلْأَوَّلِينَ فَكُلِّفُوا مُقَاوَمَةَ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ وَالْمِائَةِ لِلْمِائَتَيْنِ قَالَ وَمُقَاوَمَةُ الْعِشْرِينَ لِلْمِائَتَيْنِ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ وَكَذَلِكَ الْمِائَةُ لِلْمِائَتَيْنِ وَإِنَّمَا الصَّبْرُ مَفْرُوضٌ عَلَى قَدْرِ الْإِمْكَانِ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَقَادِيرِ اسْتِطَاعَاتِهِمْ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَسْخٌ زُعِمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا كَلَامٌ شَدِيدُ الِاخْتِلَالِ وَالتَّنَاقُضِ خَارِجٌ عَنْ قَوْلِ الْأُمَّةِ سَلَفِهَا وَخَلَفِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ النَّقْلِ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ الْفَرْضَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مُقَاوَمَةُ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ قَوْله تعالى: {إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْخَبَرِ فَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} وقَوْله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} وَلَيْسَ هُوَ إخْبَارًا بِوُقُوعِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِأَنْ لَا يَفِرَّ الْوَاحِدُ مِنْ الْعَشَرَةِ وَلَوْ كَانَ هَذَا خَبَرًا لَمَا كَانَ لِقوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} مَعْنًى لِأَنَّ التَّخْفِيفَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ لَا فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِأَنْ يُقَاوِمَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ الْعَشَرَةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ دَاخِلُونَ فِي قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} فَلَا مَحَالَةَ قَدْ وَقَعَ النَّسْخُ عَنْهُمْ فِيمَا كَانُوا تَعَبَّدُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ أُولَئِكَ الْقَوْمُ قَدْ نَقَصَتْ بَصَائِرُهُمْ وَلَا قَلَّ صَبْرُهُمْ وَإِنَّمَا خَالَطَهُمْ قَوْمٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُ بَصَائِرِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ وَهُمْ الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ تعالى: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} فَبَطَلَ بِذَلِكَ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ بِمَا وَصَفْنَا وَقَدْ أَقَرَّ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ بَعْضَ التَّكْلِيفِ قَدْ زَالَ مِنْهُمْ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى النَّسْخِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. اهـ.